سورة الزخرف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ}.
ورد هذا المقطع: {حم} بدءا لست سور من القرآن الكريم، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وهذا الاتفاق في اللفظ- كما قلنا- لا يلزم منه الاتفاق في المحتوى والمضمون، الذي ينكشف للنبى منها.. فهذه الأحرف، هى رمز وإشارة إلى معان وأمور يعرفها النبي، على حين تظل هذه المعاني وتلك الأمور، غيبا لا يعلمه إلا هو، والراسخون في العلم من أمته.
وقوله تعالى: {وَالْكِتابِ الْمُبِينِ}.
معطوف على قوله تعالى: {حم} المقسم به.. وبين المتعاطفين، اختلاف، واتفاق.. فهما مختلفان: لأن أحدهما رمز وإشارة، وهو {حم} والآخر، كلام بيّن القصد، واضح الدلالة، وهو {الْكِتابِ الْمُبِينِ}.
وهما متفقان لأنهما- الخفي والجلى- كلاهما من عند اللّه، ومن كلام اللّه.
هذا، وأوثر أن أفهم قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} [38- 43:

الحاقة]- أوثر أن أفهم القسم بما يبصرون وما لا يبصرون، على أن ما يبصرون، هو ما تتضح لهم دلالته من ألفاظ القرآن، وما لا يبصرون، هو ما لا يرون له دلالة أصلا، وهى تلك الحروف المقطعة، وقد أقسم اللّه سبحانه وتعالى بهما معا، كما جاء القسم في قوله تعالى: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} وفى أمثالها.. فهو قسم بالخفّى والظاهر من آيات اللّه.. ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع أن يشمل القسم، ما يبصرون وما لا يبصرون، من آيات اللّه القرآنية والكونية.. على السواء.
ومما يستأنس به في هذا المقام، أنه قد جاء بعد هذا القسم، نفى صفة الكهانة عن الرسول الكريم، وأن ما يقوله من ألفاظ لا يفهمون دلالتها- كهذه الحروف المقطعة- ليس هو من قبيل كلام الكهان الذي يجىء كله رموزا، وطلاسم، وإنما هو قول رسول كريم، تلقاه وحيا منزلا من رب العالمين.
قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
أي أن اللّه سبحانه، وتعالى قد أكرم هذه الأمة العربية، ببركة هذا النبىّ الذي هو صفوة خلق اللّه، فجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجعل لغتها هى اللغة التي تحمل دين اللّه كاملا، وهو الإسلام، فجاء القرآن الكريم بلغة العرب، ليكون لهم حظّهم الكامل منه، وليكونوا هم أول من يقطف من كرمه، ويطعم من ثمره.
وفى قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} إشارة إلى الحكمة من جعل القرآن الكريم قرآنا عربيا، وهى لكى يتمكن العرب من الاتصال به، وإدراك معانيه، وعقلها، حتى يفيدوا منه، وينتفعوا بما فيه من خير.. وهذا يعنى أن العقل هو الوسيلة التي يتوسل بها إلى الإفادة من القرآن، وأن من يجىء إليه متخليا عن عقله، غير متدبر لآياته، لا ينال من خيره شيئا.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}.
هو وصف للقرآن الكريم، وأنه مودع في أم الكتاب عند اللّه، وحسبه بهذا علوّا وشرفا، وإنه علىّ في ذاته، حكيم في أحكامه، ومن شأن من يتصل به أن يستعلى بإنسانيته عن مستوى أهل الجهالة والضلال، وأن يتزيّا بزىّ الحكمة، التي هى العقل المتحرر من الأوهام والخرافات، المستنير بنور العلم والمعرفة.
وقد وصف القرآن الكريم هنا بصفتين من صفات اللّه سبحانه وتعالى، هما، العلىّ والحكيم.. لأن القرآن كلام اللّه، من صفات اللّه.
فكل ما للّه سبحانه وتعالى من صفات الكمال، هو لكل صفة من صفاته.
هذا هو القرآن الذي يدعى العرب إلى تعقله، وتدبره، والحياة معه بعقولهم وقلوبهم.. فما ذا كان منهم إزاء هذه الدعوة؟ لقد تلبّثوا كثيرا، ووقفوا طويلا على حال من التردد بين الإقدام والإحجام، حتى إذا تبخرت سحب الضلال المتكاثفة حولهم، تحت أشعة هذه الشمس الطالعة في سمائهم- صحوا صحوة مشرقة، اهتزت لها أنفسهم من أقطارها، فاندفعوا وراء راية القرآن، اندفاع السيل الهادر، وقد اكتسح بقوته ما بين يديه من حواجز ومعوقات.
قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ}.
هو استفهام يحمل التهديد لهؤلاء المشركين من العرب، الذين لم يلتفتوا إلى هذا القرآن الذي بين أيديهم، ولم يمدّوا أيديهم إلى تناول قطوفه الدانية- فما ذا يظنون؟ أيحسبون أن هذا الخير سيظل محبوسا على قوم لم يربدوه، وهناك نفوس كثيرة تشتهيه، وتنتظر حظها منه؟ إنهم إن لم يبادروا إلى هذا الخير، ويمسكوا به، فإنه يوشك أن يتحول عنهم، وإذا هم إن طلبوه وجدوا غيرهم قد سبقهم إليه، وأخذ مقام الصدارة التي كان من شأنها أن تكون لهم.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} [38: محمد] والذكر: هو القرآن الكريم.
وضرب الذكر عنهم صفحا: صرفه عنهم.. أي تحوّل القرآن الكريم عنهم، وتنحيته جانبا.. وصفحة الوجه، وصفحة السيف: جانبه، وكذلك الصفحة من كل شىء.. وفى التعبير عن صرف القرآن عن المشركين، وتحوله عنهم- في التعبير عن هذا بضربه عنهم- إشارة إلى أن القرآن الكريم متجه إليهم، راغب في الاتصال بهم، والحياة معهم، وأنه لا يتحول عنهم إلا مكرها.
وهذا يعنى أن هذه النعمة لا تتحول أبدا عن الأمة العربية لأن القرآن لا يضرب أبدا، لمقامه العظيم عند اللّه، ولأنه صفة من صفاته جل وعلا، وأنه إذا كان هؤلاء المشركون قد استقبلوا القرآن الكريم هذا الاستقبال العدائى، فإنه سيجد منهم آخر الأمر، الأمة التي تحتفى به أعظم احتفاء، وتنزله من نفسها أكرم منزل.
وهذا هو بعض السر في التعبير بضرب الذكر عنهم صفحا، أي جانبا.. بمعنى أنه لا ينصرف عنهم انصرافا كاملا، بل ينصرف عنهم بجانب منه، أشبه بالمغاضب، الذي يريد العتبى ممن أغضبه، وينتظر مصالحته..! وقد صالح العرب القرآن، وأعتبوه، وأدّبوا المتطاولين عليه، وقتلوا من أجل ذلك أبناءهم، وآباءهم، وإخوانهم، وباعوا أنفسهم بيع السماح للّه، في سبيل نصرة دين اللّه الذي جاء به.
وفى الاستفهام بقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} إنذار وتنبيه، يشعر بالحرص على هداية هؤلاء المشركين، مع أنّ إسرافهم في الضلال والعناد، كان يقضى بأن يصرف القرآن عنهم، من غير إنذار، أو إعذار! قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} هو عزاء للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- وتسلية له مما يلقى من تأتى قومه عليه، وسخريتهم منه، واستهزائهم به.. فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس بدعا من الرسل في هذا الذي يناله من قومه من أذى.. فهذا شأن أنبياء اللّه ورسله جميعا مع أقوامهم: {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ}.
{وَكَمْ} هنا خبرية، يراد بها التكثير.. أي ما أكثر ما أرسلنا من نبى في الأولين، أي السابقين.. فكانت حالهم أنهم لا يلقون النبي المرسل إليهم إلا بالاستهزاء، والتحدّى، والأذى.
قوله تعالى: {فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ}.
هو تهديد، ووعيد للمشركين، فقد أهلك اللّه المكذبين بالرسل من قبلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة وبطشا.. فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين من قبلهم؟ أم أنهم أخذوا على اللّه عهدا أن يكونوا بمنجاة من عذاب اللّه؟.
وقوله تعالى: {وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي مضى المثل الذي يرى فيه المشركون العبرة والعظة، وهو ما حدثهم به القرآن الكريم من مصارع القوم الظالمين، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط..! كما يقول اللّه سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ.. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [40: العنكبوت].


{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي أن هؤلاء المشركين يختانون أنفسهم، ويخادعون عقولهم، فهم- مع علمهم بأن اللّه سبحانه هو خالق هذا الوجود، والقائم عليه- لا يقيمون أنفسهم على هذا العلم، ولا يأخذون به، بل يتبعون أهواءهم، ويتجهون مع الريح التي تهبّ عليهم من أهوائهم.. فلو سألهم سائل: {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟} لقالوا في غير تردد: خلقهن اللّه.. ثم إنهم من جهة أخرى لا يعطون الخالق ما ينبغى له من صفات الكمال والجلال، والتفرد بالخلق والأمر، بل يجعلون له أندادا وأعوانا، وينسبون إليه بنين وبنات.. بغير علم.
وفى قوله تعالى: {الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه الإقرار الصحيح منهم، بعد أن أقروا بأن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض.
فإن الذي خلق السموات والأرض، ينبغى أن يكون عزيزا متفردا بالعزة، فلا يحتاج إلى معين من صاحبة أو ولد، ولا يدخل على عزته ضيم بمشاركة شريك.
كما ينبغى أن يكون عليما محيطا علمه بكل شىء.. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟} [14: الملك].
فقوله تعالى: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} هو- وإن لم يكن مما نطق به القوم مقالا، فقد نطقوا به حالا والتزاما.. فإن إقرارهم بأن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض، يقضى بأن يكون للّه العزة المطلقة، والعلم الشامل.
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} هو إلفات لهؤلاء المشركين، وهم في موقف الاعتراف الملجئ لهم، إلى القول بأن اللّه هو الذي خلق السموات والأرض- إلفات لهم إلى أن اللّه الذي خلق السموات والأرض، هو اللّه الذي جعل لهم هذه الأرض مهدا، أي موطنا ممهدا، كأنه المهد الذي يهيأ للوليد ساعة يولد، حيث يقوم على هذا المهد من يرعى هذا الوليد، ويسهر على راحته. فهذه الأرض هى المهد الذي يحتوى الناس، والذي تحفه عناية اللّه ورعايته، بما يمدهم به- سبحانه- من نعمه، وما يفيض عليهم من فضله، وأنه لو لا هذه الأمداد لم يكن للناس حياة.
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} إشارة إلى بعض هذه النعم التي أنعم اللّه سبحانه بها على الناس، وهم في هذا المهاد الممهّد.
فمن هذه النعم، تلك السبل، وهذه المسالك التي في البر وفى البحر، والتي بها يعرفون وجوه الأرض، وينتقلون من مكان إلى مكان دون أن يضلوا.
فهم يضربون في كل وجه من وجوه الأرض، ثم يعودون إلى مواطنهم، كما تعود الطير آخر النهار إلى أعشاشها.
قوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ}.
أي ومن نعم اللّه العزيز العليم، هذا الماء الذي ينزله من السماء بقدر وحساب، حسب علمه وحكمته.. وهذا الماء المنزل من السماء، هو الذي يبعث الحياة في كل حى، ويمسك الحياة على كل حى.
وفى قوله تعالى: {فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} إشارة إلى أن هذه البلاد العامرة، بما تزخر به من عوالم الحياة من نبات، وحيوان، وإنسان- هذه البلاد، قد كانت مواتا، لا أثر للحياة فيها، شأنها في هذا شأن المقابر.. فلما نزل هذا الماء بقدرة القادر وتقديره، دبّت الحياة في الأرض الموات، وقامت المدن والقرى، وهذا هو بعض السر في قوله تعالى: {فَأَنْشَرْنا} الذي يشير إلى أن هذه البلاد العامرة نشرت من عالم الموات، وأنها كانت مطوية في التراب فنشرها اللّه، وأخرج منها هذه الحياة الدافقة.
وقوله تعالى: {كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} إشارة إلى أن بعث الموتى من القبور، هو صورة من هذا النشور، الذي نشرت به الحياة في الأرض الموات.
وفى وصف البلدة بأنها ميتة، إشارة إلى أن هذا الموت يحوى في كيانه حياة، ولكنها حياة ميتة، وستظل هكذا ميتة إلى أن يأذن اللّه لها بالحياة والنشور، بما ينزل من السماء من ماء فتحيا به الأرض بعد موتها.. وفى إفراد البلدة، وتنكيرها- إشارة إلى الوقوف بالنظر عند بلدة واحدة من تلك البلاد القائمة، حتى تستخلص منها العبرة والعظة، من غير أن يتشتت النظر ويتوزع في كل بلد.. فإذا وقعت للإنسان العبرة والعظة في البلد الواحد، كانت كل بلدة بعد هذا، هى هذا البلد.. فهى أولا بلدة، ثم هى بعد ذلك بلاد كثيرة، تشمل ما وقع عليه النظر وما لم يقع!.
قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوانِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.
أي ومن نعم اللّه العزيز العليم، كذلك، أنه خلق الأزواج كلها، من جميع ما على الأرض من مخلوقات، من عوالم النبات، والحيوان، والإنسان- فهذه المخلوقات كلها متزاوجة من ذكر وأنثى، وهى بهذا التزاوج تتوالد فتتكاثر، كما يتوالد ويتكاثر الإنسان.. وبهذا يعتدل ميزان الحياة بين الأحياء، ويكون تكاثر النبات والحيوان في البر والبحر مكافئا لتوالد الإنسان وتناسله، وبهذا يجد الإنسان كفايته مما على الأرض.
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ} إشارة إلى ما سخر اللّه سبحانه للإنسان من أدوات الركوب، في البر والبحر، والتي بها ينتقل الإنسان من مكان إلى مكان لم يكن ليبلغه مشيا على رجليه إلا بشق النفس.
وقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.
الضمير في ظهوره يعود إلى الاسم الموصول {ما} أي لتستووا على ظهور ما جعل اللّه لكم من الفلك والأنعام من أدوات حمل وركوب.
والاستواء على الظهور، هو التمكن منها، والاقتدار عليها، واقتيادها من زمامها إلى الوجهة التي يريدها الإنسان.
ففى قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ} إشارة إلى أن هذا الجعل يحمل معه تذليل هذه المخلوقات وتسخيرها للإنسان، وأنه لو لا هذا لما كان للإنسان أن ينتفع بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [32: إبراهيم] أي ذللها لتجرى بسلطانه لا بسلطانكم عليها.. كما يشير إليه قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي ما كنا قادرين على قيادة هذه المخلوقات، التي هى أقوى قوة منا، لو لا أن سخرها اللّه سبحانه وتعالى لنا، وملّكنا أمرها، والتصرف فيها.
فاللام في قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا} هى لام التعليل الكاشفة عن العلة التي من أجلها سخر اللّه هذه المخلوقات.. فقد سخرها سبحانه ليستوى الإنسان على ظهورها، ويملك تصريفها حيث يشاء.
وفى العطف بثم في قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} إشارة إلى أن ذكر هذه النعمة، إنما يكون على أتمه وأكمله، حين يكون الإنسان متلبسا بها، معايشا لها، مستظلا بظلها، طاعما من ثمرها.
عندئذ يكون إحساسه بهذه النعمة كاملا، ويكون ذكر المنعم بها قائما على شعور مدرك، يقدّر هذه النعمة، ومالها من أثر بالغ في الحال التي هو فيها مع هذه النعمة، فيجد لذلك قلبا منشرحا، ولسانا رطبا طلقا، يسبح بحمد اللّه، ويشكر له.. ولهذا جاء العطف بالحرف {ثم} الذي يفيد التراخي، والذي يشير إلى أن الإنسان إذا غفل عن ذكر اللّه، والنعمة غائبة عنه، فإنه لا ينبغى أن يغفل والنعمة حاضرة بين يديه، يعيش فيها وينعم بها.
قوله تعالى: {وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ}.
معطوف على قوله تعالى: {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا}.
فهو من مقول القول.. أي وتقولوا.. إنا إلى ربنا لمنقلبون.. أي راجعون إليه، بعد رحلتنا في هذه الحياة الدنيا.
وذكر الرجوع إلى اللّه في هذا المقام، هو أنسب الأوقات الداعية إليه، حيث المشابهة قوية بين هذه الرحلة التي يقطعها الإنسان على ظهر السفينة أو الدابة، ثم يعود بعدها إلى مستقره، الذي خرج منه. فكذلك الحياة الدنيا، هى رحلة بدأها الإنسان من يوم أن كان له وجود فيها، هذا الوجود الذي خرج من عالم قائم وراء هذه الدنيا، ثم لا يلبث أن يعود من حيث بدأ إلى هذا العالم الذي خرج منه. {إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى} [8: العلق] قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}.
هو معطوف على محذوف، هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ماذا كان من أمر المشركين إزاء هذه النعم التي بين أيديهم؟ وهل قالوا ما هو مطلوب منهم وهذا المقام، من ذكر اللّه، والتسبيح بحمده، حين استووا على ظهور هذه الأدوات المسخرة لهم؟ وكان الجواب: إنهم لم يقولوا هذا، بل استقبلوا تلك النعم بالجحود والكفران.. فلقد جعل سبحانه وتعالى لهم من الفلك والأنعام ما يركبون، وجعلوا هم له من عباده جزءا، بأن أشركوا به، وأضافوا إليه معبودات أخرى يعبدونها معه، ونسبوا إليه الولد.. وهذا ضلال عظيم، وكفران مبين، إذ كيف يكون المخلوق بعضا من الخالق؟ وكيف يكون اللّه أبعاضا، وأجزاء فالولد بضعة من أبيه، وفلذة من أفلاذه!.
قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟}.
استفهام إنكارى، يكشف عن ضلال المشركين، وفساد منطقهم.
فإنهم- وفد أراهم ضلالهم المبين أن ينسبوا الولد إلى اللّه- استغواهم الغى، فنزلوا بقدر اللّه سبحانه عن أن يكون مساويا لهم، فجعلوا للّه البنات، وجعلوا لهم هم البنين وقالوا إن الملائكة بنات اللّه، ولم يروا أن يكون هؤلاء الملائكة ذكورا.. وهذا منطق سقيم إذ كيف يكون الذكور والإناث من خلق اللّه، ثم يكون لهم هم أن يختاروا ما يشتهون منها، ويدعون للّه ما لا يشتهون؟ {أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [153: 154 الصافات].
{لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} [4: الزمر].
قوله تعالى: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} هو تسفيه للمشركين، ولقسمنهم تلك الجائرة. إنهم لا يرضون أن يكون البنات ممن يولد لهم فإذا ولد لأحدهم أنثى امتلأت نفسه غمّا وكمدا.. فكيف ينسب إلى اللّه من هو- حسب تقديرهم هدا- مصدر همّ وغم؟ أهذا أدب مع اللّه، عند من يعترف بوجود للّه؟ إنهم لو أنكروا اللّه أصلا، ولم يعترفوا بوجوده، لكان لذلك منطق عندهم أما أنهم يعترفون باللّه، ثم ينزلونه من أنفسهم هذه المنزلة التي لا يرضونها لأنفسهم، فذلك هو الضلال المبين، الذي لا يمكن أن يقام له منطق، حتى من الضلال نفسه! وفى قوله تعالى: {بُشِّرَ أَحَدُهُمْ} إشارة إلى أن {بِالْأُنْثى} نعمة من نعم اللّه، وأن ورودها على لإنسان من البشريات المسعدة، التي من شأنها أن تشرح الصدر، وتسر القلب. ولكن القوم لجهلهم وضلالهم، يضيقون بهذه النعمة، ويشقون بلقائها.
وقوله تعالى: {بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا} إشارة إلى ما نسبه المشركون إلى اللّه من ولد، حين جعلوا الملائكة بنات اللّه، وأن هذه النسبة من شأنها أن تجعل تماثلا بين اللّه، وبين خلقه. إذ كان الوالد والأولاد على صورة متشابهة أو متقاربة، أو متماثلة.. جنسا، وهيئة، ولونا، وشكلا.
قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ}.
ينشأ: يربى، ويشبّ، ويكبر.
والحلية: الزينة، وما يتحلّى به من حلى، وثياب.. وهذا من شأن النساء غالبا.
والآية تنكر على المشركين- في أسلوب استفهامى- أن يجعلوا للّه سبحانه الجانب الضعيف، من المخلوقات وهو جانب الأنوثة، على حين يجعلون لأنفسهم الجانب القوى، وهو جانب الذكورة.
إذ المعروف في عالم الأحياء، أن الذكر أقوى من الأنثى، وأشدّ بأسا، في مجال الصراع والخصام.
والمراد بالإبانة في قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ} الكشف والتجلية والإفصاح عن القوة، حين تدعو دواعيها، وتعرض في مجال الامتحان.
والآية معطوفة على قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ}.
أي أم اتخذ ممن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين، وترك لكم أن تتخذوا من تجعلون منهم فرسان قتال وأبطال حروب؟.
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ}.
وهو بيان شارح للعباد الذين جعلهم المشركون جزءا من اللّه، فهذا الجزء هو الملائكة، وقد جعلوا هؤلاء الملائكة إناثا.
فالمشركون يعملهم هذا، قد اقترفوا جرما غليظا، يضم في كيانه ثلاث جرائم:
نسبة الولد إلى اللّه، وجعل أولاد اللّه إناثا، ووصف الملائكة بأنهم إناث.
وكل هذا زور وبهتان.. لا منطق له من العقل، ولا مستند له من الكتاب.
وقوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟} إنكار لهذا القول الذي يقوله المشركون في الملائكة، إذ قالوه بغير علم.. إنهم لم يشهدوا خلقهم حتى يعلموا من أمرهم شيئا يقولونه فيهم.
وقوله تعالى: {سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ!} تهديد ووعيد للمشركين وأنهم سيحاسبون على هذا القول الذي يقولونه في الملائكة، والذي سيكتب على أنه شهادة منهم في هذا الأمر.. وإذ كانت تلك الشهادة زورا، فإنهم سيماقبون عليها عقاب شاهد الزور!


{وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}.
هو معطوف على جرائم المشركين التي عرضتها الآيات السابقة.. وجريمتهم هنا أنهم يذهبون مذهب السفسطة، والمماحكة، فيعترفون بأن اللّه سبحانه مشيئة عامة غالبة.. وهذا حق، ولكنه حق أرادوا به باطلا، فجعلوا عبادتهم الملائكة مشيئة للّه فيهم، وأن اللّه لو شاء لهم أن يعبدوا غيرها لعبدوه.. فهم- والحال كذلك- قائمون على أمر اللّه، غير خارجين على مشيئته.. وهذا مكر سيىء منهم، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله.
ونعم إن للّه سبحانه وتعالى كلّ شىء.. وإنهم لن يملكوا مع اللّه نفسا يتنفسونه إلا بأمره ومشيئته.. ولكن أين مشيئتهم هم؟ أليست لهم مشيئة عاملة، يأخذون بها الأمور أو يدعونها؟ إنهم لو عطلوا مشيئتهم في كل أمر لكان لهم أن يقولوا هذا القول.. ولكنهم إذا حضرهم الطعام مدوا أيديهم إليه، وأخذوا منه ما يسد جوعهم، فإذا شبعوا رفعوا أيديهم عنه.. فلم يمدّون أيديهم إلى الطعام، ولا يقولون لو شاء اللّه أن نأكل لأكلنا؟ هذه أقرب صورة من صور مشيئتهم، إلى ما لا يحصى من السور التي تتحرك فيها تلك المشيئة، في أقوالهم وأفعالهم.. فكيف يجعلون أفعالهم الضالة وأقوالهم المنكرة من مشيئة للّه، ولا يجعلون لمشيئتهم وجودا هنا، مع أنها موجودة في كل حال معهم؟ إن ذلك- كما قلنا- مكر باللّه، وتبرير لكل جناية يجنونها على الناس أو على أنفسهم.
ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الغواة الضالين لو جروا على منطقهم الذي يجعلون به للّه سبحانه وتعالى مشيئة عامة شاملة، لكان مؤدّى هذا أن بعبدوا اللّه وحده، وأن يتبرءوا من كل شريك له، إذ كان سبحانه، صاحب السلطان المطلق، والمشيئة النافذة.. وإنه لضلال سفيه أن يعبد المرء من لا سلطان له ولا مشيئة، ويدع صاحب السلطان، ورب المشيئة! ولكن هكذا يزيّن الضلال لأهله سوء أعمالهم، فيرونها حسنة.. وفى هذا يقول اللّه سبحانه على لسان أهل الضلال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ} [148: الأنعام] ويقول سبحانه على لسانهم كذلك:
{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟} [47: يس].
وقوله تعالى: {ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ}.
الإشارة بذلك إلى هذا القول الذي يقولونه باطلا وزورا، ويضيفون فيه عبادتهم الملائكة إلى مشيئة اللّه.
فهذا الذي يقولونه لا علم لهم به.. لأنهم لا يعلمون ما هى مشيئة اللّه، ولا يقدرونها قدرها، فهم إذا أساءوا، ووضعوا موضع المساءلة والحساب قالوا هذا من مشيئة اللّه فينا، وإذا كانوا في عافية من أمرهم، لم يلتفتوا إلى هذه المشيئة، ولم يضيفوا إليها شيئا مما هم فيه، بل جعلوه من كسب أيديهم، كما قال قارون: {إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي} [78: القصص].. وكما يقول الضالون فيما ذكره اللّه تعالى على لسان كل ضال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي} [9- 10: هود] وقوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} توكيد لجهل القوم وضلالهم، وسفاهة منطقهم فيما يقولون عن مشيئة اللّه.. فهو قول لا مستند له من علم، أو عقل، وإنما هو قائم على الوهم والتخمين.. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي ما هم إلا يخرصون، أي يرجمون بالغيب.. وإن من يبنى معتقده، ويقيم دينه على مثل هذه الأوهام والظنون، لا يصل إلى حق أبدا، واللّه سبحانه وتعالى يقول:
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ} [10- 11: الذاريات].
قوله تعالى: {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ليس عندهم بما يقولون علم ذاتىّ، اهتدوا إليه بعقولهم، ولا علم من كتاب آتاهم اللّه إياه، قبل هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول رب العالمين.
فالمراد بالاستفهام هنا، النفي.
قوله تعالى: {بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي إنه ليس لهم علم من ذات أنفسهم، ولا من كتاب جاءهم قبل هذا الكتاب، وإنما كل ما عندهم، هو ضلال ورثوه عن آبائهم، وقالوا لمن يسألهم عن دينهم الذي يدينون به، ويعبدون عليه الملائكة من دون اللّه، على اعتبار أنهم، بنات اللّه- قالوا: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} أي على دين.. فالأمة في اللغة تجىء بمعنى الدين، حيث تجتمع الجماعة عليه، وتكون أمة تنتسب إليه، كما تنتسب بقومينها، فكما يقال الأمة العربية، يقال كذلك الأمة الإسلامية.
يقول النابغة الذبياني:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع؟
أي وهل يحلفنّ كاذبا متأثما من كان ذا دين؟
وفى قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ} إشارة إلى ما بلغ بهم استسلامهم لموروثات آبائهم من ثقة، فيما ورثوه عنهم، فتلقوه في اطمئنان، دون أن ينظروا فيه بعقولهم، وأن يكشفوا عما فيه من حق أو باطل.. وإن هذا لا يكون إلا من سفيه أحمق، يعطل عقله، ويزهد فيه، ويسترخصه، فلا يعيش إلا من هذا الغذاء الذي هو فضلة مما ترك الآكلون، وقد تعفّن وفسد!! فهل هذا شأنهم مع ما ورثوا عن آبائهم من أموال ومتاع؟ ألم يقلّبوا هذه الأموال والأمتعة بين أيديهم؟ ألم يطرحوا منها ما هو غير صالح؟ ألم يأخذوا الصالح منها، ويعملوا على الإفادة منه؟ فما بالهم مع ما تلقوا عن آبائهم من عادات ومعتقدات هى مما يتصل بعقولهم،- ما بالهم قد قبلوه على علاته، وأخذوه دون نظر فيه:
{أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [170: البقرة] قوله تعالى: {وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}.
أي ليس هذا شأن هؤلاء المشركين وحدهم، بل هو شأن أهل الضلال جميعا في الأمم السابقة، ما جاءهم من نذير إلا تلقوه بهذا القول الضالّ المضلّ: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}! وهكذا يقيم الضلال له مجرّى آسنا، يتوارد عليه من منبعه إلى مصبّه أصحاب العقول السقيمة، والنفوس الخبيثة، كما يسقط خسيس الطير على الجيف.
واختصاص المترفين بالذكر هنا، لأنهم هم الذين يقومون دائما في وجه كل دعوة تخرج بالنّاس عما هم فيه من حال إلى حال، فإن هذا التحول يؤذن أهل الترف والغنى بأن يخرجوا عما هم فيه.. ومن هنا كان أكثر الناس حربا وأشدهم عداوة لدعوات الإصلاح، هم أصحاب المال، والجاه والسلطان، حيث لا يريدون تحوّلا عن حالهم التي هم فيها.
قوله تعالى: {قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ}.
أي أنه إذا جاء الرسول، يحاجّ هؤلاء المترفين، ويردّ عليهم قولهم هذا الذي يقولونه عن موروثاتهم من آبائهم، فقال لهم: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟} أي أنظلّون ممسكين بهذا الذي ورثتموه عن آبائكم، ولو دعوتكم إلى ما هو خير منه طريقا، وأهدى سبيلا؟- فلا يتلقى الرسول منهم إلّا إصرارا على ما هم فيه، وإلّا كفرا وتكذيبا بما يدعوهم إليه.
وفى مخاطبة الرسول لهم فردا، وردّهم على الرسل جمعا- في هذا إشارة إلى أن هذا هو الجواب الذي تلقاه الرسل جميعا من المترفين من أقوامهم.
قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
هو إنذار لهؤلاء المشركين، وتهديد لهم بأن يلقوا ما لقى المكذبون قبلهم من نقمة اللّه، ومن عذابه في الدنيا والآخرة.. وفى هذا وعد كريم للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- بالنصر والتأييد.

1 | 2 | 3 | 4